بسم الله / الاستقبال / اللغة/من خصائص اللغة العربية/القياس

من خصائص اللغة العربية

(القياس (فلسفة القياس

  

    سبق لنا في الفصل المعنون بـ " اللغة العربية وآراء المفكرين الغربيين " أن أوردنا مقولة (ارنست رينان) بشأن إعجابه بعبقرية اللغة العربية، ونصها : « من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القوية وتبلغ درجة الكمال وسط الصحاري عند أمة من الرحل. تلك اللغة التي فاقت أخواها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها، ولم يعرف لها في كل أطوار حياتها طفولة ولا شيخوخة.»

    ونحن نقول لعل الأغرب من ذلك هو ما لهذه الأمة من الرحل من عقلية منهجية منطقية وعلمية شمولية، يصدرون عنها في شؤون حياتهم كلها. ولا تسمح لهم أن يأتوا ما يأتون ارتجالاً أو اعتباطا، بل هم إذا ما تلفظوا حرصوا على أن تكون لألفاظهم قاعدة تنتظمها وتشمل ما عسى أن يحدثوا من ألفاظ جديدة كما سيتبين لنا عند ما نعالج "الأوزان".

    وقبل ذلك، نود أن نستدل على شمولية هذه العقلية المنهجية عند العرب بالصورة التي جعلوها للأرقام المعروفة عند الأوربيين وسائر أمم العالم باسم الأرقام العربية. فهكذا جعلوا لرقم الواحد رسماً يُشكل زاويةً واحدة على النحو التالي :  ولرقم الاثنين رسما يُشَكِّلُ زاويتين اثنتين على النحو التالي :    ولرقم  ثلاثة رسما يشكِّلُ ثلاث زوايا على النحو التالي :  ولرقم أربعة رسما يشكل أربع زوايا على النحو التالي   : ولرقم خمسة رسما يشكل خمس زوايا على النحو التالي  : وهكذا الستة  والسبعة  الثمانية  والتسعة  واخترعوا الصفر الذي معناه في اللغة العربية خال. تقول العرب " الدار صفر " أي خالية. فجعلوه على شكل ليس فيه زاوية 0 وسموه صفرا : أي خاليا من كل زاوية.

    وكما جعل العرب للأرقام أشكالا هندسية تعبر عن قيمتها العددية فإن عقليتهم المنهجية المنطقية والعلمية الشمولية أبت عليهم أن يكتفوا من الحروف بوظيفة الدلالة على أصوات تتألف منها الكلمات المعبرة عما يجول في الفكر، مثلما هو الشأن في سائر اللغات، بل حدتهم إلى أن يضيفوا إلى هذه الحروف وظيفة حسابية بإعطائها قيمة عددية يستعملونها لتأريخ الأحداث والوقائع في أشعارهم حسب نظام دقيق محكم يسمونه " حساب الجُمَّل ".

    ويشرح " المعجم الوسيط " في باب الجيم " حساب الجُمَّل " على النحو التالي : " حساب الجُمَّل : ضرب من الحساب يجعل فيه لكل حرف من الحروف الأبجدية عدد من الواحد إلى الألف على ترتيب خاص ".

    وزاده المعجم في باب الهمزة توضيحا كما يلي :

   » وتستعمل الأبجدية "حساب الجمل" على الوضع التالي :

 أ    ب   ج    د    هـ    و    ز    ح    ط    ي     ك    ل     م     ن     س    ع 

70   60   50   40   30   20   10   9    8     7    6    5    4   3    2    1

 ف     ص   ق      ر       ش       ت     ث       خ       ذ       ض     ظ       غ

1000   900   800   700   600   500   400   300   200  100   90    80

    والمغاربة - يقول المعجم - يخالفون في ترتيب الكلمات التي بعد " كلمن " فيجعلونها : صعفض قرست ثخذ ظغش«.

    ولا تستعمل هذه الأبجدية في عملية الجمع الحسابي فحسب، بل تستعمل كذلك في عملية الضرب. فكان آباؤنا وأجدادنا يستخدمونها لما نستخدم به - حاليا - " جدول الضرب ". فكانوا يحفظونها لقيمتها العددية على الطريقة المذكورة التي كانوا يسمونها "الحمارة " فيستخلصون منها نتائج عمليات الضرب بأسرع مما نفعله نحن الآن مع "جدول الضرب ".

    ولا ندري وجها لهذه التسمية إلا أن يقصدوا بها أنهم يصلون بها إلى غرضهم كما يصلون إلى غرضهم بالحمارة.

ويؤيد هذا الرأي أن العروضيين يلقبون "بحر الرجز" بـ "حمار الشعراء" لكثرة ما يركبونه لنظم مختلف الأرجوزات في الفقه وفي العلوم وفي شتى الفنون وضروب المعرفة.

    وينبغي هنا أن نشير إلى أنهم كانوا يكتبونها ويحفظونها على النحو التالي :

أَبَجِدْ  هَوَزٍ  حُطَيٍّ  كَلَمِنْ  صَعْفَضٍ  قُرِسَتْ  ثَخُذْ  ظَغْشٍ.

    ويستعمل الشعراء قديما وحديثا حساب "الجُمّل" لتأريخ الأحداث والوقائع التي في نظرهم هامة وذلك في آخر بيت من قصيدة أو قطعة منظومة لتخليد الحادث أو الواقعة ويكون البيت ذا معنى منسجم مع بقية الأبيات ولا يشعرك أن المقصود بالبيت عملية التأريخ إلا الأرقام التي فوق أو تحت كلمات البيت وهي مجموع القيمة العددية الجُمَّلِية لحروفها.

ومثال ذلك ما ختم به طبع كتاب "المخصص" على عهد الدولة الخديوية العباسية المرحوم طه بن محمود رئيس التصحيح للكتب العربية بدار الطباعة الكبرى قصيدته في مدح كتاب "المخصص" بقوله :

أقول لما انتهى طبعاً أؤرخه     جاء المخصص يروي أحسن الكلم

            سنة 1321             4     851      226   119 121

    فلا غرو إذن أن يكون للقوم قانون يشتمل على قواعد لتشكيل ألفاظهم نطقا وكتابة. وهذه القواعد هي التي يسميها الصرفيون " الأوزان " وما سمي القياس قياسا إلا لأنه يقيس الكلمات على هذه الأوزان. فلا تخرج كلمة عربية أصلية عن وزن معلوم منها. وعندما نتحدث عن الأوزان نكون دخلنا في صميم عملية التعريب وبعبارة أخرى نكون قد تناولنا الأداة الوحيدة في اللغة العربية التي بها يمكن اشتقاق ألفاظ جديدة، وبالتالي إيجاد مقابلات عربية للمصطلحات العلمية والتقنية.