هال
أعداء الأمة العربية استحكام هذه العروة
الوثقى (رابطة الفصحى) التي تجمع -على
الأقل في خطاب التفاهم - بين أبناء العروبة
الآهلة بهم تلكم الرقعة الشاسعة الممتدة
من آسيا إلى إفريقيا في وحدة لغوية فصيحة
لا لبس فيها ولا إبهام ولا غموض الشيء الذي
أصبحت دول أوربا الموحدة في سوق مشتركة
وعملة واحدة تحسدها عليه وتسعى جادّة إلى
إيجاد لغة واحدة مشتركة فيما بينها
لتستكمل وحدتها.
هالهم
ذلك، هم الذين إلى الأمس القريب كانوا
يستعمرون البلاد العربية بجيوشهم وحكامهم
ويمزقون أراضيها ولم يألوا جهداً في
التفرقة بين أبنائها وتقسيمها إلى أقطار
وأقاليم ودويلات وإمارات وحرصوا على
تحريض أهاليها على الاقتتال فيما بينهم من
أجل التمسك بكل شبر مما رسموه لهم من حدود
الجوار فيما بينهم.
لقد
مكروا كل فنون المكر من أجل القضاء على هذه
اللغة الجامعة، التي هي كل ما بقي من
مقومات القومية العربية، كما بيّنا ذلك
بتفصيل في كتابنا "في اللغة".
ثُمَّ
عدلوا عن تلك الأساليب الماكرة بعد مَا
افتضحت غاياتهم منها ويئسوا من حمل أبناء
العروبة على تبني خططهم والسير على نهجها.
بيد
أنهم لم يتخلوا عن الدّسّ لكن هذه المرة
بأسلوب غير مفضوح، بأسلوب خفي كل الخفاء،
لا يكاد يفطن له إلا المتخصصون في اللغة
والغيورون عليها والمترصدون لدسهم ومكرهم.
وهذه
الحرب التي شنوها على لغة عدنان لها ثلاث
واجهات حتى الآن حسب ملاحظتنا
:
(1
اللحن
(غير المنهجي) :
لقد
خصصنا قسما كاملا من كتابنا في "اللغة"
لمعالجة جملة من الأخطاء الشائعة مستندين
إلى شواهد لغوية من أمهات كتب اللغة مثل
"لسان العرب" لابن منظور و"تاج
العروس، من جواهر القاموس" للزبيدي و"أساس
البلاغة" للزمخشري إلخ...
ومن
بين تلك الأخطاء نذكر
مثالاً واحداً
شاهداً
على أن معظم ما نعانيه من اللحن هو وليد
خطة مُبَـيَّـتـة، مدروسة، هادفة -في
مرحلة أولى- إلى تحريف مفردات لغة الضاد من
أجل خلق بلبلة واضطراب ينتهيان بالقضاء
على لغة العروبة بصفتها لغة فصيحة واضحة
مفهومة كل الفهم من العرب وغير العرب
مِمَّنْ يحسنونها.
لقد
مكثت أسمع من إذاعة المملكة المغربية طوال
ما يزيد على خمسين سنة الاستعمال الصحيح
للفظ "تَجْرِبَة" ولفظ "تَجَارِب"
(بكسر الراء فيهما) وفوجئت في السنوات
الأخيرة من المحطات الفضائية
العربية بسماع لفظ "تجرُبة" و"تجارُب"
(بضم الراء فيهما) فما الذي حمل
أولئك
المحررين والمذيعين على العدول عن الصواب
إلى الخطإ (بينما يقتضي المنطق العدول عن
الخطإ إلى الصواب) لولا وجود دسّاسين
ماكرين من وراء اللحن يَعيثُونَ فساداً في
لغة العروبة ولغة القرآن. وما الذي حملهم
عن العدول عن استعمال "مديرين" (جمعا
لـ"مدير") إلى استعمال "مُدَراء"
(الذي لا يعني لغةً معنىً مما تدل عليه
الإدارة بل يعني فيما يعنيه "المتغوّطين
في ثيابهم".
ولا
نزعم أن كل اللحن هو وليد الدس فمن اللحن
ما هو آت من القصور في معرفة اللغة. ولكن
مهما كان مصدر اللحن فمن الواجب أن يتصدى
لعلاجه كل غيور على اللغة.
(2
اللحن
المنهجي :
إلى
جانب ما ذكرناه من اللحن هناك لحن منهجي
ونعني به اللحن الذي اتبع فيه الدساسون
"قاعدة" معيّنة مثل بناء الفعل
الماضي على صيغة "فَعِلَ" بكسر العين
في جميع الأفعال مهما كان بناؤها الأصلي
سواء "فَعَلَ" أو "فَعُلَ" أو
"فَعِلَ".
وهكذا
بدأنا نَسْمَعُ "حَرِصَ" بدلاً من
"حَرَصَ" و"شَغِلَ" بدلاً من "شَغَلَ"
وحتى "عَرِفَ" بدلاً من "عَرَفَ"
والقائمة طويلة.
(3
لحن
المسخ :
ولحن
المسخ هو ثالثة الأثافي ولم يتجرأ عليه
الدساسون حتى تَـبَـيَّـنَ لهم انصياع
المحررين والمذيعين في المحطات الإعلامية
الفضائية منها وغير الفضائية انصياعا
تاما لما وضعوه من اللحن المدسوس.
ولفظ
"المسخ" مستعمل هنا لا بالمعنى
المجازي بل بمعناه الحقيقي الذي يعني حسب
"المعجم الوسيط" الذي أصدره مجمع
اللغة العربية بالقاهرة : "مَسَخَهُ
يَمْسَخُهُ مَسْخاً : حوّل صورته إلى أخرى
أقبح".
فلقد
شاع شيوع النار في التبن على لسان
المذيعين في المحطات الفضائية العربية
العبارة "طالَهُمُ القصف" "يَطالُهُمُ
القصف" بمعنى "شَمَلَهُمُ القصف"
"يشمَلُهم" أو بمعنى أصابهم القصف، و"يصيبهم
القصف" وأحياناً "طاولهم القصف".
ولنبادر
إلى القول بأن ذلك "الفعل المضارع"
المصطنع لا وجود له في اللغة بتاتا لا لفظا
ولا معنىً. والمسخ يكمن في الفعل الماضي
"طالَهُ" (المتعدي). ففعل "طالَ
يَطُولُ" (اللازم) معناه حسب معجم (لسان
العرب) لابن منظور : "طالَ يطول طُولاً :
فهو طويل" وفي "طالَ" (المتعدي)
أورد نفس المعجم : "طال فلانٌ فلانا : أي
فاقه في الطول... وفي الحديث أن النبي صلى
الله عليه وسلم ما مَشَى مع طِوَالٍ إلاّ
طالَهُم".
وفي
المعجم الوسيط : "طَالَ
فلانا غلبه في الطُولِ أو في الطَّوْل".
وفيه : "الطَّوْل : الفضل والغنى
واليسر".
وفي
(لسان
العرب) : "... ومنه الحديث : قال لأزواجه
أَوَّلُكُنَّ لحوقاً بِي أَطْوَلُكُنَّ
يداً" فاجْتَمَعْنَ يَتَطَاوَلْن
فَطَالَتْهُنَّ سَوْدة، فماتت زينب
أوَّلَهُنَّ ؛ أراد : أَمَدُّكُنَّ يداً
بالعطاء من الطَّوْلِ فظننته من الطُّول،
وكانت زينب تعمل بيدها وتَتَصَدَّق".
وفيما
يخص "طَاوَلَ" أورد (المعجم الوسيط)
ما يلي : "طاوَلَ في الشيء : طَوَّل،
وطاوَلَ فلاناً في الطُول أو في الطَّوْلِ
: غالبه وباراه وطاول فلانا في الدَّين
ونحوه :
ماطله".
فمن
هذا يتضح أن "طالهم" بمعنى "شملهم"
أو "أصابهم" لفظ غريب دخيل على لغة
عدنان وينبغي أن يكون مرفوضا من أبناء
العروبة.
ومما
يدل على أن هذا المسخ للغة الضاد يدخل في
خطة مدروسة دراسة ماكرة شاملة ما فاجأتني
به حفيداتي وَهُنَّ طالبات في الجامعة من
استعمال المفردة "الوَعْرُ" لا بمعنى
"الصعب" أو ضدّ "السهل" بل بمعنى
"الرائع" و"البديع" و"الحسن
جدّاً" جازمات بأن المفردة "الوعر"
لا يَستعملها سائر الطلبة إلا بهذا المعنى
الأخير ولا يفهمون استعمالها بمعناها
اللغوي الحقيقي.
إن
هذا التلاعب باللغة بلغ من الخطورة درجة
لا تسمح أن يقابل بالصمت فأحرى بالقبول
والانصياع.
إنها
حرب على لغة القرآن من المفروض أن يكون في
طليعة جنودها المدافعين عليها علماء
اللغة وسائر المثقفين وإن تَوَانَوْا عند
ربهم يُسْـأَلُـون.
|