بسم الله / الاستقبال / اللغة/من خصائص اللغة العربية/الإيجاز والدقة

 من خصائص اللغة العربية

الإيجاز والدقة

  

     كان العرب الأوائل يقتصدون في أمورهم وأحوالهم كلها فكانوا يستغنون بخيام الوبر عن الدور المبنية ويكتفون من الطعام بأقل من القليل وكانوا يقتصدون حتى في كلامهم فكانوا يجتزئون بالحرف الواحد عن الكلمة إن أفاد معناها وبالكلمة الواحدة عن الجملة وبالجملة الواحدة عن عدة جمل فهم  القائلون : "خير الكلام ما قل ودل" وكان هذا المثل السائر شعار علمائهم وبلغائهم من خطباء وشعراء وأدباء. فجاءت لغتهم أكثر اللغات إيجازا وأبلغها بيانا وأفصحها عن المقاصد والأفكار في دقة لا نكاد نجدها في غيرها من اللغات.

    قد أشار ابن خلدون في مقدمته إلى الإعراب عند العرب فقال : « إن كلامهم (أي العرب) واسع، ولكل مقام عندهم مقال يختص به بعد كمال الإعراب والإبانة. ألا ترى أن قولهم : "زيد جاءني" مغاير لقولهم : "جاءني زيد" من قِبَلِ أنّ المتقدم منهما هو الأهم عند المتكلم فمن قال : "زيد جاءني" أفاد أن اهتمامه بالشخص قبل المجيئ المسند وكذلك التعبير عن أجزاء الجملة بما يناسب المقام من مفصل أو مبهم أو مُعَرَّف وكذا تأكيد الاسناد على الجملة كقولهم : زيد قائم وأن زيدا قائم وإن زيدا لقائم متغايرة كلها في الأدلة وإن استوت من طريق الإعراب فإن الأول العاري عن التأكيد إنما يفيد الخالي الذهن، والثاني المؤكد يفيد المتردد، والثالث يفيد المنكِرَ. والكلمات الحاصلة من ذلك أحسن الكلمات وأوضحها إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني، مثل الحركات تعين الفاعل من المفعول، والمجرور أعني المضاف، ومثل الحروف التي تفضي بالأفعال إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى وليس يوجد ذلك إلا في لغة العرب. وأما غيرها من اللغات فكل معنى أو حال لا بد له من ألفاظ تخصه بالدلالة، ولذلك نجد كلام العجم في مخاطبتهم أطول مما تقدره بكلام العرب، وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم " أوتيت جوامع الكلم".» انتهى كلام ابن خلدون.

    وبمقابلة عبارات اللغة العربية بالعبارات الأعجمية المترجمة لها يتبين مصداق مقالة ابن خلدون فيتبين بوضوح ما في اللغة العربية من إيجاز وما فيها من دقة في التعبير وما في إعرابها من اقتصاد في الكلمات مع إفادة المخاطب كامل الإفادة وتبليغه المقصود ببلاغة متناهية. وذلك ما نعتزم القيام به فيما يلي من هذا الفصل بحيث سنعمد إلى مقارنة عبارات عربية بعبارات فرنسية تقابلها فبضدها تتبين الأشياء كما قال الشاعر وقبل ذلك فلنسمع للبحاثة "لوي ماسنيون" يقول : « في حين أن اللغة السريانية قد نقلت أجروميتها عن اللغة اليونانية نقلا صرفا، استطاعت لغة الضاد أن تشيد بناء ضخما من الإعراب يضع أمام الأبصار مشهدا فلسفيا ذا روعة وأصالة.»

    وقال الأستاذ السائح : « وتمتاز اللغة العربية بالإيجاز والتركيز : الإيجاز في اللفظ والتركيز في المعنى. وذلك حرصا منها على وقت السامع والمتكلم. وقد تستعمل العربية حرفا واحدا يدل على معان كثيرة ويعبر عن أغراض متنوعة. مثال ذلك حرف اللام : منه لام التوكيد، ولام الاستغاثة، ولام التعجب، ولام الملك، ولام السبب ولام التخصيص ولام الأمر ولام الجزاء ولام الوقت. وفي العربية مرونة وحسن موسيقى يجعلانها لا تتردد في أن تزيد أو تحذف حفظا للتوازن في الكلمة وإيثارا له. وتمتاز العربية بالحركية والقوة ليقع القول من نفس السامع الموقع القيم الذي يهيئ له الحالة النفسية التي تحفز إلى العمل والحركة. وتمتاز اللغة العربية بميزات جعلتها أسلم اللغات وأقواها وأشدها وأصلحها. ومن هذه الميزات التي انفردت بها : اعتدال كلماتها فإن أكثر ألفاظها قد جاء على ثلاثة أحرف وأقل من ذلك ما جاء على أربعة أحرف. وأقل من ذلك ما جاء على خمسة أحرف وليس فيها ما جاء على ستة أحرف. وما كان على ستة أحرف فهو مزيد وليس بأصلي في الكلمة. وهناك ألفاظ قليلة جاءت على حرفين أو حرف واحد.».

بعض مظاهر الإيجاز

    قلنا في صدر هذا الفصل أن العرب كانوا يجتزئون بالحرف الواحد عن الكلمة إن أفاد معناها وبالكلمة عن الجملة وبالجملة عن جمل عديدة. فمثل الحرف الواحد الذي يُجْزِئُ عن الكلمة حرف القاف من فعل "وَقَى" في صيغة الأمر فنقول : "قِ" ومعنى هذا الحرف يؤدى في الفرنسية بكلمة   Protège  ثم حرف العين من فعل "وَعَى" في صيغة الأمر "عِ" ويقابل هذا الحرف في الفرنسية كلمتان هما Comprends bien ثم حرف الشين من فعل "وَشَى" (الثوب) في صيغة الأمر فنقول "شِ" (الثوب) ويقابل هذا الحرف في الفرنسية كلمة Broche (le tissu) وهكذا جميع الأفعال المعتلة الأول والآخر في صيغة الأمر وما أكثرها في اللغة العربية ثم حرف الباء من حروف الجر تقابله في الفرنسية كلمة Par في مثل قولنا عالج الطبيب المريض بالحمية ويقابلها في الفرنسية : Le médecin a soigné le malade par la diète ثم حرف اللام من حرف الجر في مثل  قولنا «أمتثل أمر الطبيب لأبرأ» (أو لِأُشْفَى أو لِأَصِحَّ) يقابل حرف اللام هذا في الفرنسية كلمة Pour في ترجمة مثل هذه الجملة Je suis la recommandation du médecin pour guérir ثم حرف الكاف من حروف الجر الذي تقابل في الفرنسية كلمة Comme في مثل قولنا : "دوائي كدوائك" Mon médicament est comme le tien ولننتبه في هاتين العبارتين إلى قِصَر الجملة العربية وإلى طول الجملة الفرنسية لفظا وكتابة وإلى خفة العربية بالنسبة للفرنسية. وحسبنا أن نقول إِنَّ جل الجمل الفعلية الضمائرية في الفرنسية أطول من الجمل الفعلية الضمائرية في العربية بثلاثة أضعاف على الأقل فمثلا هذه الجملة العربية المكتوبة بكلمة واحدة : "دَخَلْنا" تقابلها في الفرنسية جملة مركبة من ثلاث كلمات وما أطولها كتابة  وهي Nous sommes entrés وكذلك "خَرَجْنا" Nous sommes sortis. وكلتا الكلمتين "دَخَلْنا" و"خَرَجْنا" مركبة من خمسة حروف بينما كلتا الجملتين الفرنسيتين اللتين تقابلهما تتركب من ستة عشر حرفا ومن المعلوم أن الجمل الفعلية الضمائرية منها تتكوّن بنية كل لغة ومن هنا نستخلص أن بنية اللغة العربية أوجز وأخف نطقا وكتابة من بنية كل لغات العالم. والأمثلة في هذا الصدد أكثر من أن تحصر.

    أما اكتفاء العرب بكلمة واحدة عن الجملة ففي مثل قولنا "صَهْ" فقد نص (المعجم الوسيط) على أن صَهْ : بمعنى اسكت وهو اسم فعل يستوي فيه خطاب الواحد أو غيره وقد يُنَوَّنُ وقرر النحاة أن تنوينه للتنكير، فإذا قلت (صَهْ) بلا تنوين معناه : "دَعْ حديثك هذا لا تَمْضِ فيه". وإذا نون (صَهٍ) كان معناه : "دَعْ كل حديث ولا تتكلم". ومثل ذلك (مَهْ)  معناه "اكفف عن أي عمل". لقد نص القاموس المحيط للفيروزبادي في معنى «مَهْمَهَهُ قال له : مَهْ مَهْ أي اكفف».

    أما الجملة التي تفيد جملا عديدة فخير مثال لها هو الآية الكريمة رقم 34. من سورة البقرة : { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } لقد جاءت هذه الآية البليغة مترجمة إلى الفرنسية في كتاب يدعي ترجمة القرآن كما يلي Elles sont vos pantalons et vous êtes les leurs وترجمة هذه العبارة الفرنسية إلى العربية هي كما يلي : "هُنَّ سراويلاتكم وأنتم سراويلاتهن"، فالآية تعني أنهن وقاية لكم تتقون بهن الزنا وأنتم وقاية لهن منه مثلما تتقون البرد باللباس. فالمراد باللباس لباس التقوى ويؤيد هذا المعنى قوله سبحانه وتعالى في الآية 26 من سورة  الأعراف : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون }. وكلمة "لباس" كثيرا ما تستعمل في المجاز وذلك مثل قوله تعالى في الآية 112 من سورة "النحل" : {...فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون } ومثل قوله عزّ من قائل، في الآية 47 من سورة "الفرقان" : { وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً } وفي الآية 10 من سورة "النبأ" : { وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً } أما عملية الجماع التي أراد المترجمان(1) الإشارة إليها بصورة سمجة فهي مذكورة بصراحة في الآية التي قبلها وفي الآية التي بعدها بلا حاجة إلى ذكرها مرة ثالثة. ففي الآية التي قبلها يفيد هذا المعنى كلمة   "الرفث" والتي بعدها كلمة "باشروهن" وذلك قوله تعالى { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } تأتي بعدها مباشرة { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } ثم بعد ذلك مباشرة {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن } ويتأكد هذا المعنى بقوله تعالى : { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فعفا عنكم }. ذكرنا هذا لنستدل على أن هذه الجملة لا يمكن استقصاء معانيها إن أردنا تفسيرها ولا يمكن ترجمتها ترجمة تقريبية إلى الفرنسية إلا بعدة جمل.

تاء التأنيث

    ومن مظاهر حرص العرب كل الحرص على إيجاز كلامهم والاختصار من حروف الكلمة الواحدة هي أن تاء التأنيث لا يستعملونها إلا فيما تشترك فيه المرأة والرجل ويحذفونها فيما اختصت به الأنثى فمن ذلك قولهم "ناهد" للفتاة التي نتأ نهدها ومثل ذلك "مُرْضِع " و "حائض" و "طاهر" (من الحيض) وإذا أرادوا طهارتها من العيوب الخلقية قالوا "امرأة طاهرة" لأن الرجل يشاركها فيها. ثم "حامل" ما دامت تحمل في بطنها الجنين فإذا هي حملت ولدها على ظهرها أو بين ذراعيها يدخلون تاء التأنيث فيقولون "حاملة ولدها على ظهرها أو بين ذراعيها " لأن الرجل يشاركها هذا الحمل. قال الله تعالى في سورة المسد { وامرأته حمالة الحطب } ومثل هذا الإيجاز لا يوجد إلا في لغة الضاد.

التضمين

    ومن الإيجاز الذي اختصت به اللغة العربية "التضمين" وهو كما فسره مجمع اللغة العربية في قرار قياسيته : " التضمين أن يؤدي فعل أو ما في معناه في التعبير مُؤَدَّى فعل آخر أو ما في معناه فيُعْطَى حكمه في التعدية واللزوم".

    وخير مثال للتضمين ما جاء في سورة النساء من القرآن الكريم (الآية) : { وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم }. فالتضمين في هذه الآية جاء في كلمة "تأكلوا" التي تضمنت زيادة على معناها المعروف معنى "بأن تضيفوها إلى (أموالكم)" والذي أفاد هذا التضمين هو حرف "إلى" المقرونة به الإضافة في اللغة وذلك مثل قولنا "أضاف الشيء إلى الشيء" بينما فعل "أكل" لا يقترن بحرف "إلى" في مطلق الكلام ولكنه وارد في الآية الكريمة لتضمينها زيادة على معنى الأكل معنى الإضافة ليصبح معناها "ولا تأكلوا أموالهم بأن تضيفوها إلى أموالكم" وبهذا صارت كلمة "تأكلوا" تعني في نفس الوقت الأكل والإضافة تضمينا لكلمة واحدة معنى كلمتين وإفادة معنى جملة محذوفة "بأن تضيفوها" اختصارا للكلام بقصد الإيجاز. ولولا هذا التضمين لكان في الآية المذكورة (رقم 2) تناقض مع الآية التي بعدها (رقم 6) { ومن كان فقيرا فلياكل بالمعروف}.

    وهذا التضمين نسميه نحن "التضمين البلاغي" ونقسم "التضمين" ثلاثة أقسام :

 (1  التضمين البلاغي

 (2  التضمين العروضي : هو «أن تتعلق قافية البيت بما بعده على وجه لا يستقل بالإفادة»(الوسيط(.

 (3  التضمين الاقتباسي : هو « أن يأخذ الشاعر أو الناثر آية أو حديثا أو حكمة أو مثلا،  أو شطراً أو بيتا من شعر غيره بلفظه ومعناه » (المعجم الوسيط(.

    ويرى مجمع اللغة العربية أن التضمين البلاغي قياسي لا سماعي بشروط ثلاثة  :

         الأولى - تحقق المناسبة بين الفعلين.

         الثاني -  وجود قرينة تدل على ملاحظة الفعل الآخر، ويؤمن معها اللبس.

         الثالث - ملائمة التضمين للذوق العربي.

    ويوصي المجمع ألا يلجأ إلى التضمين إلا لغرض بلاغي.