كتاب "في الاصطلاح" لمؤلفه الأديب الشاعر، الكاتب، اللغوي إدريس بن الحسن العلمي هو ثالث ثلاثة كتب، به تستكمل مجموعة كتب لغوية تعريبية من سلسلة
"اللسان"، سبق أن نشرت منها: كتابا "في التعريب" وكتابا "في اللغة".
والكتب الثلاثة، كما سبق أن شرحت ذلك، تشكل وحدة متكاملة أخرج فيها مؤلفها عصارة أفكاره وتجاربه اللغوية في الترجمة وممارسة التعريب لمدة ما ينيف عن الخمسين سنة.
(1 فجاء كتاب "في اللغة" : يعالج عبقرية اللغة العربية وآراء المفكرين العرب والغربيين حولها وما تمتاز به عن غيرها من خصائص من اشتقاق وقياس ونحت وإيجاز ودقة وإعراب وثروة وسعة تدرج في مراتب الأشياء ؛ يقوم بمقارنات بنيوية وأسلوبية بين اللغة العربية واللغة الفرنسية تبرز معها عبقرية لغة الضاد وتفوقها على اللغة الفرنسية من حيث الإيجاز والدقة في التعبير وجزالة اللفظ وتركيب الجمل... ومن أهم ما جاء فيه، خدمة لمستقبل اللغة العربية، "مشروع معجم المعاني العربي" الذي سبق للمؤلف بسطه واقتراح منهجه وموضوعه في بحث قيم مفيد نشر في العدد الأول من مجلة اللسان العربي (صفر 1384 - يونيو 1964). كما يستعرض الكتاب ضمن فصوله الحديث عن معاجم المعاني العربية القديمة بالمقارنة مع معاجم المعاني الفرنسية الحديثة. وينبه الكاتب على أهمية الألفاظ القرآنية بإعطائها الأولوية في الاستعمال والمداولة والكتابة نثرا وشعرا... ويبرز الكاتب أهمية "المعجم الوسيط" الذي أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة ومكانته المرموقة من بين المعاجم اللغوية العربية المعاصرة وبعض ما يتفرد به عن سواه... وأعقب ذلك ببعض الملاحظات عليه نشرت ضمن سلسلة أبحاث في مجلة اللسان العربي. وإذ يشكر المؤلف المجمع اللغوي بالقاهرة لاستجابته لعدد من الأخطاء التي نص عليها والتي تداركها المعجم بالتصحيح في الطبعة الثانية ؛ يهيب به بالعمل على تدارك الأخطاء الأخرى المنصوص عليها ويلح الكاتب في هذا الطلب معززا آراءه بالشواهد اللغوية والمعجمية الكثيرة. ويتعرض الكتاب لتصحيح أخطاء شائعة وما شاع من لحن على ألسنة المذيعين على الخصوص فجاراهم في ذلك عامة القوم. ويختتم الكتاب بقسم محاربة اللغة العربية : فتعرض الكاتب فيه لمختلف الدسائس التي حيكت وتحاك للقضاء على لغة القرآن (ذلك مثل الاستقصار والدعوة للتعجيم والتلتين أو الدعوة للهجات العاميات القطريات بديلا عنها...).
ويتحسر الكاتب بلوعة مريرة لما تعانيه اللغة العربية من تهميش رسمي في الواقع المعيش ببلادنا واقصاء بمنعها من أداء دورها الفعال والحيوي في استكمال تعريب التعليم العالي والإدارة والمرافق العامة كما هو الشأن في البلدان العربية التي أخذت بالتعريب شأنها الوطني والقومي قولا وفعلا...
(2 أما كتاب "في التعريب" فجاء على قسمين :
- القسم الأول " تقنية عمل التعريب " : يعالج على الخصوص مفهوم التعريب. ثم آفاته إذا تعلق الأمر بجهل أو تقصير ممن يقوم به أو التباس في المصطلحات من حيث الاشتراك أو الاختلاف ثم تناول في مجموعة من مقالات بعض مزالق التعريب مثل الترجمة الحرفية العمياء أو التنبيه لبعض الالتباسات والخلط الذي قد يحدث في تعريب مفاهيم متباينة معنى ومتقاربة اصطلاحا قبل أن يعرض لتصحيح الأغلاط الشائعة في الترجمة والتعريب. وبعد ذلك تناول القسم الأول بالدراسة أهم معاجم والدي التعريبية مثل معجم "المستدرك في التعريب" ومعجم "الطحانة والخبازة والفرانة" وغيرهما : مع تعريف ثم تقرير حولها (من طرف هيئات لغوية بارزة) مردفين بتعقيب.
- القسم الثاني "مسيرة التعريب" : يدرس حركات التعريب وبيئاته مع ذكر نشاط التعريب على الخصوص في سورية ومصر والعراق. وفي نهاية البحث تناول هيآت التعريب في عدة فصول معرفا بالمجامع اللغوية العلمية والاتحادات العلمية عبر البلاد العربية ونشاطها. قبل أن يختم كل ذلك بنشاط المكتب الدائم لتنسيق التعريب في الوطن العربي والتعريف بمؤسسات تعريبية وطنية متخصصة مثل معهد الدراسات والأبحاث للتعريب ومصلحة التعريب التابعة للمكتب المغربي للمراقبة والتصدير (التي سهر والدي على رئاستها مدة 28 سنة) وما قامت به من نشاط وخدمة للغة الضاد.
(3 كتاب "في الاصطلاح" الذي بين يديك : وهو يعالج موضوع الاصطلاح، فبعد فصل مفيد يحدد مفهوم الاصطلاح وماهيته ويبين الفرق اللغوي بينه وبين المصطلح والمصطلحية ، وبعد إبراز المناهج والضوابط المعتمدة (سواء منها اللغوية أو التقنية) لإيجاد المصطلح... يدخل بنا المؤلف لصلب الموضوع وذلك بدراسة عدد من الأوزان وإبراز دورها الخطير والمهم في خدمة الاصطلاح وإيجاد المقابل العربي لعدد من الألفاظ الأجنبية العلمية منها أو الحضارية محافظة على سلامة اللغة العربية من الهجنة ومن الدخيل من الألفاظ الذي لا يوافق الذوق العربي والسليقة مقتبسة من ينابيع اللغة العربية الصافية والفياضة ما يطيب من كلمات تناسب في شرحها (كما ورد في أمهات المعاجم العربية) مصطلحات أو مفردات أجنبية نفتقر لمقابل لها في وقتنا الحاضر... والمؤلف باقتراحه تلك المقابلات يثري لغة الضاد على غرار ما سعى له سابقا في معجمه "المستدرك في التعريب" أو من خلال مقالاته اللغوية المنشورة في مجلة اللسان العربي من أول عدد صدر منها إلى يومنا... وكانت له مع الأوزان تلك مغامرات ذات شأن كفيلة أن تحل مشكل المصطلحات الزوائدية الأجنبية التي تحتوي على لاحقة sufixe أو سابقة préfixe. ولا أريد في هذه العجالة بسط كل ما تناوله موضوع هذا الكتاب الفريد النهج الأصيل المبنى والمحتوى تاركا للقارئ الكريم أن يتمتع بقراءته والاستفادة منه. وهو خليق بالمناقشة.
ويتجلى من الاطلاع على فحوى الكتب الثلاثة السالفة الذكر أن التعريب يشكل مادة خاصة به، لا يمكن خلطها بالترجمة، وتنماز عنها بخصوصيات منها علم وضع المصطلحات وفق ضوابط وقواعد لا يعرفها حق معرفتها إلا الممارس لها ولفن التعريب والترجمة من حيث علاقتهما وامتداد الثاني من الأول، وذلك باللجوء مثلا إلى الاشتقاق والنحت واستعمال الصيغ والأوزان لإيجاد المقابل المناسب للمصطلحات أو وضع مقابل لها، ثم السعي في توحيدها وتعميم استعمالها والعمل على نشرها بكل الوسائل المتاحة من وسائل سمعية بصرية وغيرها.
فحبذا لو دُرِّس هذا العلم "علم التعريب" (بعد جمع مادته) في معاهد اللغة والترجمة مثلما تُدرس مادة الترجمة ... ويمكن الاستفادة من مادة الكتب الثلاثة : في اللغة، في التعريب، في الاصطلاح... لتدريس المواد المتعلقة بالتعريب فتركز المقررات على هذه الوحدات الثلاث ومضامينها.
وخلاصة القول إن الكتب الثلاثة : في اللغة، في التعريب، في الاصطلاح ؛ تشكل بحق مدرسة في فقه اللغة والتعريب والاصطلاح استفدت منها الكثير...والكثير ؛ وخطت لي نهجا في مشاريعي المعجمية لتعريب الطب والتمكن من الوسائل المتاحة لإيجاد المصطلحات وفق منهجية علمية رصينة وضوابط لغوية ضرورية. فجازى الله المؤلف خير جزاء وأمد الله في عمره وبارك أعماله
.ومشاريعه،آمين. والله من وراء القصد وبه التوفيق، والحمد لله رب العالمين
|