بسم الله/الاستقبال/ |
||
![]() |
![]() |
|
دِيـبَـاجَـة بقلم الدكتور علي الغزيوي الأستاذ بكلية الآداب بفاس عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية
|
||
"في رحاب الله" هذا عنوان ديوان أو جزء صغير من ديوان الشاعر المغربي إدريس بن الحسن العلمي الذي اختار لمجموع شعره عنوان "نفحات". وأصدره منجما في أجزاء صغرى هي على التوالي : "في شعاب الحرية"، ويضم قدرا من شعره الوطني، ومن نماذجه المتميزة "نشيد العرش"، و"نشيد ولي العهد"، وقد تغنى المرحوم أحمد البيضاوي بهذين النشيدين الوطنيين. ومن نماذجه الوطنية أيضا : "عرش وشعب"، "البطل الشهيد"، "عودة الملك"، "نشيد الوحدة"، "رثاء الزعيم علال الفاسي"، وغير ذلك من النماذج المخضرمة بين رحلتي الحماية والاستقلال. وقد أهدى الشاعر هذا الديوان الوطني للأستاذ الكبير الحاج عثمان جوريو الذي كان له الفضل في الأخذ بيده لركوب سفينة البحور الشعرية. وأما ديوانه الثاني فهو ذو نفس وتوجه إسلاميين، يؤكد ذلك عنوانه "في رحاب الله"، كما تؤكده القصائد التي ناهزت الأربعين نموذجا. وقد صدر مؤخرا عن مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء (1999) بتقديم ولد الشاعر الدكتور أمل العلمي. ويلي هذين الجزأين من شعر إدريس العلمي جزآن آخران تحت الطبع، وهما على التوالي : "مع أزهار الحياة"، و"على الدرب". وفي مقدمة الديوان محطات وإيضاءات مهمة، وكثير من المفاتيح لفهم قصائد الشاعر في سياقها وظروفها الخاصة. وعلى الرغم مما حفلت به حياة الشاعر إدريس بن الحسن العلمي من أحداث ومواقف خلال مرحلة الحماية، وكان حينذاك في أوج شبابه، يتقد حماسا، ويترجم أحاسيسه إبداعا، فإنه لم يسع إلى طلب الشهرة أو البحث عن دائرة الضوء التي تجعله مادة للإعلام والإشهار، ولذلك ظل في خلوته، منعزلا، مؤثرا للظل، مع غزارة شعره، وتمكنه من ناصية الأدب، وامتلاكه لأدوات التعبير. بل هو إلى جانب ذلك باحث مقتدر غيور على اللغة العربية، معجمي محنك، ومصطلحي مهتم بإغناء العربية تأليفا وترجمة، ولا سيما من اللغة الفرنسية، غير أنه لم ينشر مما كتب إلا القليل. وربما كان تصوفه وراء عزوفه عن النشر، ودافعا إلى الزهد في طلب الشهرة، قانعا بتسبيح الكون : سَــبِّــحِـي يَـا شَـــمْــــسُ رَبَّــــــكْ والْــزَمِــي الـتَّـسْـبِــيـحَ دَهْــــرَكْ واشْــهَــــدِي يَــا أُخْـــــتُ أَنِّـــــــي حَـــــامِــــدٌ لِــلَّـــــــهِ مِـــثْـــلَــكْ ***** كُــلُّ مَـــا فِــي الــــكَــــوْنِ تَـسْـبِـــيــــــحٌ بِـحَــمْـــدِ الـلَّـــــهِ يَــصْــعَــــدْ سَـــبَّــــحَ الــكَـــــــوْنُ بِــحَـــمْــــــدٍ وأَنَــــا بِـالــحَـــمْــــدِ أَسْــعَـــــــدْ فَــمَــــعَ الــشَّــمْـــــسِ صَـــلاَتِــــي ثـُـــمَّ لَــــــيْـــــــلاً أَتَــــهَـــجَّـــــدْ أو خاشعا برحلته في روحانية المولد، يتملى نفحات النبوة، ويستظل بدوحة الحب الإلهي : كَـتَــبُــوا الْـمَـــوْلِـــدَ نَـــــثْـــــــــراً ووَجَــــدْتُ الــشِّــعْـــــرَ أَحْــلَـــى
مَــــدَحُـــــوا الـــــــذَّاتَ ولَـــــــــكِـــــــنَّ مَـــدِيـــحَ الــــرُّوحِ أَعْـــلَـــى نَــثْـرُهُــمْ إِنْ كَـــانَ تِـــبْـــــــــراً فَــيَـــوَاقِــيــتِــــيَ أَغْـــــــلَــــــــــى *** إِنَّـمَـــــا وصْـــفِـــي أَصِــيــــــــــلٌ فِـــــي نَــشِــيـــدٍ يُــتَــمَـــلَّــــــــى حِـكْـمَـةٌ فِــي الـشِّـعْــرِ أَمْـــلَـــــى مَـــنْ عَــلَـيْـــهِ الـلـــهُ صَــلَّـــى ويمكن التأريخ للتحول الكبير عند الشاعر مع قصيدته "في ظل الله"، وذلك سنة 1954 إبان نفي محمد الخامس، بعد أن أفرج عن الشاعر موقتا وبكفالة مالية، بعد إلقاء القبض عليه بسبب نشاطه، ولا سيما من خلال إبداعه الشعري الوطني، وهو الشاعر الموهوب الذي بدأ خطواته الشعرية الأولى وهو في السابعة عشرة من عمره، وكان يحصد الجوائز الأولى في المسابقات الشعرية. وكثيرا ما حالت الرقابة دون انتشائه بلذة الفوز. كما حدث حين مُنع من إلقاء قصيدته "عرش وشعب" الحائزة على الجائزة الأولى في إحدى الحفلات سنة 1951. وحين جاء دوره لإلقاء قصيدته الفائزة على خشبة المسرح الملكي بالدار البيضاء، رفع لافتة كُتب عليها "حذفتها الرقابة". فكانت أبلغ من الكلام، وتجاوب معه الجمهور بالتصفيق والحماس إلى أبعد حد، كما يشير ولده الدكتور أمل العلمي في مقدمة ديوان والده. إلى أن مقص الرقابة كثيرا ما كان يتتبع قصائده ومقالاته على أعمدة جريدة "العلم" وقد كان مراسلا لها بالدار البيضاء، وكذلك على أعمدة مجلة "رسالة المغرب" فتصدر مبتورة بسبب الحذف. وبعد تجربة السجن، وأمام هول الصدمة بنفي رمز الحرية والسيادة، وقع تحول ملموس لدى الشاعر إدريس العلمي فتفجرت قريحته بالشعر الصوفي، واتسمت قصائده في معظمها بالتوجه الديني والتعلق بالله. ثم توالت النفحات والمضامين الدينية في شعره. فكان بذلك رائدا من رواد الأدب الإسلامي. وإذا أمكن القول بأن هذه الظاهرة كانت عادية حينذاك، باعتبار أن الشعر الديني كان ملجأ الشعراء للتخفيف من همومهم الخاصة والعامة، يستمدون المدد، ويشحنون النفوس والقلوب بالنفحات الربانية، ويقتدون بالشمائل النبوية، فإن ما يحسب لشاعرنا ويسجل في صحيفته الغراء أنه كان حينذاك في أوج شبابه وفحولته، وأنه استطاع أن يمزج شعره الوطني بنفحات إيمانية عميقة تؤكد وعيه بالفكرة الإسلامية وتوجهه الديني النابع منها، وبذلك سما بشعره الوطني وارتقى في تجربته الإبداعية، ولا سيما وولده يؤكد في مقدمة الديوان أن والده قد اتخذ مدة سجنه بمثابة مدرسة روحية أغنى خلالها حياته الفكرية بالإقبال على دراسة تفسير القرآن الكريم للمراغي شيخ الأزهر، وأقبل على الدراسات الصوفية، وبحث عن المشارب الصافية التي تجنبه التيه والزيغ فاختار الطريقة التجانية التي كان لها تأثير كبير عليه في المراحل اللاحقة من حياته، وذلك ما نجده يتبلور في تجربته الشعرية خلال الستينات وبعدها، في ديوانه "على الدرب"، ففي آخر قصيدته "في ظل الله" يعلن الشاعر بعد تخبط وحيرة : وَجَدْتُ الصَّفَاءَ بِظِلِّ الإِلَهْ لقد جاءت قصائد ديوان في "رحاب الله" جامعة بين شكلي القصيد المحافظ، وما يشبه الموشح، ويضاف إليهما ما يمكن تصنيفه في إطار أغاني الأعراس، وقد جاء هذا النمط خفيفا منسابا، سهلا واضحا. وبهذه السمات وما يطبعها من رقة في الإيقاع، وسلاسة في العبارة، ووضوح في الدلالة، يسد الشاعر فراغا كبيرا في هذا المجال، وهو باب طريف من أبواب الأدب الإسلامي. ومن نماذج هذا النمط "نشيد عرس" يقول في أوله : بُـــشْرَى لَــنَــا مَــرْحَـى لَــنَــا يَــا أُخْــتَــنَــــا لَـكِ الْــهَــنَــــا بـشـــرَى لــنـــــا مـــرحَـى لـــنـــــا ومن النماذج الطريفة التي يمكن عدها جديدة إلى حد ما في الأدب الإسلامي، قصيدة "مضطهدة" وقد قالها على لسان مُحَجَّبَة يضطهدها أبوها، وقد استهلها الشاعر بقوله على لسانها : تَـغْــضَــــبُ إِذْ أَحْــتَـــجِــــــــبُ تَـــــسُــــبُّ ثُــــمَّ تَـــضْـــرِبُ تُـــرِيـــدُنِـــــي عـَــارِضَـــــــــةً مِـــنْ جَــسَــدِي مَـا يُـعْــجِـــبُ كَــسِــلْــعَـــةٍ أُغْــــرِي بِــــــهِ يَــا مَــنْ عـَـسَــاهُ يَــطْـلُــــبُ وإذا كان الشاعر يتغنى بالحب الرباني، ويهيم حبا في الكون، ويتشبث بالشمائل النبوية، ويذوب تعلقا بها، حتى إن دوحة الحب عنده هي : هِيَ دَوْحَــةُ الـحُــبِّ الإِلاَهِـيِّ الَّـــــــذِي أَحْـيَا، وَأَضْنَى، واجْـتَبَى ثـُمَّ اسْـتَـقَـرّْ هِـيَ لِلَّـــذِي عَــشِـقَ الْإِلاَهَ فَــمَـــا رَأَى فِي الْكَوْنِ غَيْرَهُ فَهْـو قَصْـدُهُ وَالْوَطَرْ فَبِهِ اكْـتَـوَى وبِهِ احْـتَمَى، وبِهِ اهْـتَـدَى ولَـهُ دَعَـا وأَتَـى الْوَغَى وَبِهِ انْـتَـصَرْ وإذا كان الأمر كذلك فإن الشاعر لا يتنكر للواقع البشري، ولا يجهل الحب الماديَّ، ولكنه بحسه الإسلامي، ونزعته الخلقية الرفيعة السامية، يسعى إلى الارتقاء به، ويتدبر مآله فيرى أن ما يمكن أن يقترفه في لحظة نزق باسم الحب ليس إلا نزوة عابرة يمكن أن تكون وبالا على الطرفين. ولذلك فهو يختار حدثا واقعيا في هذا المجال ليعرضه في قالب فني طريف، ذي نفس طويل، ونزعة قصصية تعتمد الحكي والتشويق فيقدم في قصيدته "جمال الحب"، وهي أطول قصائده نفسا في هذا الديوان، تجربة من شعره أيام الشباب، في فتاة إسبانية جميلة كانت رَكِيبَتَهُ في الحافلة، ويستهل القصيدة بقوله : مَـــــاذَا تُـــرِيـــدِيــنَ مِــنِّــي ؟ . تُـــــغْــرِيـــنَ بِـــي كُـــلَّ جِـــنِّـــي فُــنُــونُ سِـحْــــرِكِ شَــــتَّــــــــــى غَـــالَـــيْـــتِ فِـــي كُــــلِّ فَــــــــنِّ أَمَـــــــا نَــهَـــــــاكِ وقَـــــــــارِي عَـنِ اقْــتِـحَـامِــكِ حِــصْــنِـــي ؟ . فَـهَــــلْ تَــبَــيَّــنْــــتِ سِـــــــــــــرّاً بَـيْـــنَ الـغَـــرَامِ وَبَـــيْــنِــــي ؟ . أَلْـــقَــــاكِ فِـــي كُــــلِّ يَـــــــــوْمٍ عَــلَـى رَصِــيــفِ الــمَــحَـطَّـــــهْ وفِـي الـلِّــحَــــاظِ اشْـــتِــــهَـــــاءٌ وفِــي شِـــفَـــــاهِـــكِ غِــبْــطَـــــهْ تُـــــدَبِّــــــرِيـــنَ لِـــوَصْـــــلِـــــي أَلْـــــفَ احْــتِــيَــــالٍ وَخِــــطَّــــــهْ فِــي شَـــعْــــرِكِ الـحُــسْـــنُ زَاهٍ وقَـــدْ تَــعَــمَّـــدْتِ مَــشْـــطَــــــــهْ وبعد عدة مقاطع يحلق فيها على أجنحة الحب على غرار ما سبق، يعبر بين الفينة والأخرى عن إبائه وترفعه وسمو أخلاقه، وكما حدث ليوسف مع امرأة العزيز في خروجه سالما من التجربة، فقد ختم الشاعر قصيدته بعبرة لو تأملها الناس لصان بعضهم أعراض بعضٍ فارتدعوا، يقول الشاعر في ختام قصته : فَــــلاَ تَـــقُـــولِـي : " خَـلِــيـلِـــي إِنِّـــي لَـأَدْعُــــوكِ : " أُخْــتِــــي" وأَتَّــقِــــي الــيَـــــوْمَ فِــــيــــــــكِ مَـصِـيــرَ إِبْــنِـــــي وبِــنْــتِــــي عَــسَـى مِــــنَ الـمَـسْــــخِ رَبِّـــي يَــصُــونُ قَـلْــبِــي وبَــيْـــتِــــي فَـــــلَا رَجَــــــــاءَ سِــــــــــــــوَاهُ لِــكَـــيْ يُــنَــــزَّهَ نَـــــبْــــتِـــــي تلكم محطات من ديوان الشاعر إدريس بن الحسن العلمي، حفيد الطبيب عبد السلام العلمي الذي عاش في عهد السلطان الحسن الأول، ووالد الطبيب الأستاذ عضو هيئة التدريس بكلية الطب بالدار البيضاء سابقا، وبكلية الطب بفاس حاليا، الدكتور الأديب الذواقة المشارك أمل العلمي. إنه الشاعر الذي يعتز باللغة العربية، ويؤكد أنه لا عِزَّ إلا بالإسلام، ويرى أن الشعر ترجمان صادق أمين، فيؤلف وينظم في الثناء على العربية، ويحدد مفهومه للشعر بقوله : تَـرَضَّـيْــتَـنِـي كَـــيْ أَبُـثَّـــكَ قَـلْـــبِــــــي وَأُفْـضِي بِمَا فِي النُّهَى وَالضَّمِـيـــــرِ فَـأَوْدَعْــتُــكَ الـسِّـرَّ طَــوْعـاً وَكـَــرْهــاً فَــكُـنْـتَ أَنِــيـسِـي وكُـنْـتَ سَـمِـيــرِي وَخَــيْــرَ الـتَّـــرَاجِـــــمِ عَــنِّــي وَلِـــــي وفِي دَوْلَـةِ الــشِّـعْــرِ كُـنْــتَ أَمِـيـرِي فَـأَفْــصَـحْــتَ عَـــنْ كُـــلِّ عَــاطِـــفَــــةٍ وَخـــالِــــجَـــةٍ بِــبَــيَــانٍ نَــضِـــيــــرِ ولَــمْ تَـعْـيَ عَــنْ أَيِّ مَـعْـنًى دَقِـيــــقٍ ولاَ عـَـنْ أَدَاءٍ بـَـلِــيـــغٍ عَـــسِــيـرِ إِذَا الـصِّـــدْقُ كــانَ لِـبَـاسَ الـشُّــعـُـورِ أَتَى الـشِّـعْـرُ مِـنْـهُ بِـثَـوْبٍ حَـبِـيـــــرِ ولإن شعر إدريس العلمي غير متداول على نطاق واسع، فإن صدور ديوانه في "رحاب الله" يعد إضافة متميزة للمكتبة المغربية. وما بين المادة الشعرية في الديوان، وبين تقديم أستاذ جامعي متذوق للشعر، تتهيأ مادة للباحثين في الأدب المغربي خلال عهد الحماية، ثم في مرحلة الاستقلال، من أجل سد بعض الثغرات، وملء عدد من الحلقات المفقودة في مسيرة هذا الأدب، بهدف رَصْدِ قضاياه وظَوَاهِرِهِ. |
||
|
|
|
![]() |